نـثرت
الضوء أمامي و أنا أتـقدم بممرّ ضيق وسط حقل شاسع من الذرى... أسمع نقيق
الضفادع بمكان ما و خترشة الجراد الرتيبة قد بدأت تألفها أذنـاي...
لا أذكر شيئا عن الطريق التي سلكتها قبل أربع سنوات، و لكنها حتما قرب الجسر...
التـقطتْ عيناي جسماً غريبا !!.. و بشكل لا إراديّ تسمّرتُ مكاني و انقبض قلبي قبل أن أميّـز ماهيته بالضبط !.
جسم يبدو آدميا جدا... لكن المرعب فيه هو كونه معلّقا !.. إن لم أقل مشنوقـا إلى غصن شجرة ضخمة !...
توقـفتُ مذعورا... بلعتُ ريقي بصوت مسموع و ارتجـفتْ بقعة الضوء أمامي و أنا أفكر في الهرب إلى... إلى أين ؟.
أدركت أنه لا مجال للفرار.. و بصعوبة جمـّة سلّطت عليه ضوء المصبـاح..
انتصب شعر رأسي
بعنـف، وتجمّع الدم بدمـاغي حتى قارب الانفجار... ثم، و بشكل مفاجئ، شعرتُ
بسريان الدم من جديد في عروقي الخاوية و استرجعتْ أشواك رأسي ليونتها
عندما فهمتُ أن الجسم لا يعدو مجرد فزّاعة نصبـها أحد الفلاحين لإرعـاب
الطيور.. و الأشخاص المغفّلـين مثلي..
استشعرتُ الهواء
البارد يداعب وجنتاي وكأنه كان قد توقف بدوره من هول الصدمة !.. بصقتُ
بعصبية و لعنتُ الليل و الحقل و الفزّاعة و نفسي و.. وعمي... أعلم أن عمي
لا دخل له في كل هذا و لكنني لعنته على أية حال!..
واصلتُ التـقدم بالممر الحجري إياه محاولا تذكير نفسي بكوني رجلا كهلا و ليس طفلا غبيا يبلل سرواله الداخليّ لأسباب تافهة..
تبا !.. ما أطول هذا السبيـل... ربع ساعة و أنا أجرّ قدمـيّ دون أن أعثر للحياة من دليـل.. * * *
كشف ضوء المصباح
الشاحب عن منـزل ما خلف إحدى الشجيرات... هذا جميل!.. بل رائع!.. تقدمت
نحوه متوغلا بحقل الذرى و أنا أدندن بأغنية ما كدليل على فرحتي...
كنت أُبعد سنابل الذرى عن طريقي بيدي اليسرى و أحمل باليمنى المصباح الذي يتـفحص بحذر جدران المنـزل إياه..
لماذا يبدو مهجورا إلى هذا الحد ؟.. هل هي نوافذه المكسّرة ؟.. أم بابه الخشبي المهترئ و الذي لم أحبب منظره كثيرا ؟..
لم أشأ الاقتراب أكثر.. و أجهـل المبرر..
و بعد أن طُفت عليه وتفقّدتُ المكــان حوله، تأكدتُ تماما أنه مهجور..
لكن ما لم أستسغه جيدا هو كون هذا المنـزل الوحيد هاهنا، و الظاهر أنه لصاحب الحقل... و مادام مهجورا !.. فمن يعمل بالأرض إذن ؟..]
تواثبت هذه
الأفكـار في ذهني بينما أبحث بعين المصباح عن شيء ما... في الحقيقة كنت
أبحث عن منزل آخر يُفترض أن يكون لصاحب الحقل.. أيّ منـزل يحمل إمارات
الحياة البشرية لتتلاشى عنده أفكاري المرعبة.. بيد أنني - لسوء حظي - وجدت
نظريتي المخيفة، والتي تقتضي أن يكون هذا المنـزل اللعين بجانبي مِلكا
لصاحب الحقل.. وجدتها صائبة تماما.. بل أصبحتْ حقيقة قائمة بذاتها بعدما
لمح مصباحي أشجارا ضخمة ترسم حدودا للحقل !!..
حِرت و لم أعرف جواب ذلك السؤال الذي كـان سيرتطم برأس أيّ مخلوق مكـاني.. " ما العمـل ؟ "...
سأمتُ منظر السّنابل على يميني، و شعرتُ بتقزّز غامض كلما سلّطتُ الضوء على جدران المنزل على يساري..
داهمتني فكرة جنونية على حين غرة... لماذا لا أبيت بالمنزل حتى الصباح، و من تمّ أواصل بحـثي ؟.
ارتجف جسمي لهـول الفكرة... فما من شيء أهابه في حياتي أكثر من المنازل الفارغة !!.
ولكن من جهة أخرى، أجدني في الخلاء، وسط حقل مترامي الأطراف هو حتما مليء بالحشرات و الزواحف..
ارتعشت فرائصي مرة
ثـانية و أنا أرمق المنزل بعينين ضائعتين... و لم أدري، حينها، لمِـَا
خُيـّلت إليّ نافذة من نوافذه المحطمة وجها لشبحٍ يبتسم !!..
و أنا منغمس تماما في أفكاري الهوجاء تناهى إلى مسمعي صوتٌ أشبه إلى فحيح الثعبان من أيّ صوت آخر..
اقـتُلِعت من نفسي اقتلاعا والتفتُّ لا إراديا نحو مصدر الفحيح، وقد كـان على يميني مباشرة !.
اتسعت عيناي من فرط الصدمة.. فهناك على غصن شجرة زيتون فتية.. تدلت أفعى رقطاء، يلمع جسمها الرشيق تحت ضوء القمر.
اقشعرّ بدني وأنا أتفحصها بضوء المصباح المتهالك وقد تأكّدَتْ بداخلي رغبة المبيت بالمنـزل...
و بغُصّة في الحلق تقدمت نحو البوابة المتآكلة مُردّدا دعاءا ما...