كانت أول تجربة لي في القفز من نافذة بالطابق العلوي.. و لحسن حظي تلقتني السنابل الكثيفة مما خفّف الصدمة قليلا !..
نهضتُ بنفس الحماس
و الهُياج.. نظرتُ إلى مكان الذراع المبتور.. و رأيت الدم يتدفق منه
بغزارة.. احترق قلبي حسرة.. فقد أصبحتُ معاقا و لم أزل رجلا يتفجر ينبوع
القوة بشراييني.. وا حسرتاه !..
لكنني نفضتُ عني الحزن و كفكفتُ دموعي.. فالمسألة مسألة حياة أو موت الآن..
ثم بدأت أركض وسط الحقل المظلم !..
و ما إن توغّلتُ
قليلا وسط السنابل حتى سمعتُ صرخة جهنمية ورائي !.. و لما التفتُ.. رأيتُ
الطفلة الشيطانة تستقر على الأرض بعد أن قفزتْ من النافذة بدورها.. و كانت
تزمجر بثورة و كأنها لم تصدق أنني نجحتُ في الإفلات من براثنها..
و بدأت المطاردة..
* * *
كنتُ أراها تركض بسرعة مخيفة كلما نظرتُ ورائي.. و المسافة بيننا تتضاءل شيئا فشيئا.. و كأنها تطير فوق الأرض !..
و لم أكن لأتبين الطريق أمامي لشدة الظلام و كثافة السنابل.. وقد ضاع مصباحي.. لولا نور القمر الذي يُظهر أنصاف الأشياء !..
التفتُ مرة أخرى حتى أقيس المسافة بيننا.. فذعرت لما رأيت وجهها أقرب من اللاّزم !..
ثم تعثرت من شدة الرعب.. و لم أستطع النهوض بسرعة.. و هي لا تتوقف عن الركض الصاروخي و قد بدأت أرى بريق المُدية في يدها !..
* * *
لا يهم فأنا سأموت طبعا..
* * *
نهضتُ أخيرا قبل أن تصل إليّ بمتر واحد.. و ما إن أطلقت رجليّ للريح حتى اخترقت شفرتها فخدي !..
صرختُ صرخة ترددت بالأجواء فحلّقت طيور سوداء..
لكنني قاومت الألم بصبر خرافي !.. و انحرفتُ في مساري حتى أتملّص من قبضتها..
ثم رفستها على وجهها بقوة فسقطت إلى الوراء بعنف..
انتهزتُ الفرصة و واصلتْ رجلاي التهام الحقل بجنون..
و لاح الجسر.. فتضاعفت سرعتي و تضاعف لُهاثي..
ابنــي.. أنا قادم !..
* * *
اقتربتُ من
الجسر.. و أنا أقاوم دوارا يكاد يُلقي بي أرضا، مغشيا عليّ.. و حينذاك
ستكون النهاية.. و سيذهب هذا الأمل الضئيل في قلبي..
انحرفتُ عدة انحرافات و توقفتُ عدة مرات خلف شجرة في طريقي حتى أضللها ثم أعاود الركض من جديد..
و أنا كذلك حتى لم أعد أراها ورائي.. وصلتُ الآن للجسر.. أرى صفحة الماء بالأسفل تلمع لمعانا..
اختبأتُ خلف بعض
الحشائش العالية.. و ما إن جلستُ القرفصاء حتى انطلقتُ ألهث بحدة.. فوضعت
كفي اليمنى على فمي و قد اتسعت عيناي رعبا.. فقد تهتدي إلى مكاني بسبب هذا
اللهاث الذي لا أستطيع التحكم به !..
و فجأة لاحتّ أمامي..
* * *
أوقفت أنفاسي على الفور !..
كانت تنظر هنا و هناك و قد بدت عليها إمارات التوتر.. ضربت برجلها الأرض و صرختْ صرخة.. و كأنها عواء الذئب !..
هي لم تلمحني على ما يبدو..
أشعر برئتيّ تنتفخ و كأنها ستنفجر.. و لكنني اختنقتُ و صمدتُ..
ثم صمدتُ أكثر لما تذكرت (محمود).. فلذة كبدي.. سأعود لك يا حبيبي، سأعود..
و في هذه اللحظة، نظرتْ إلى المكان الذي أختبئُ فيه !!..
* * *
أرى بريق المُدية في يدها !..
* * *
تجمدتُ مكاني و ازداد وجهي احتقانا.. إنني أمام نوعين من الموت الآن... الموت اختناقا.. أو.. الموت تقطيعا..
و نظرتْ مليّا، بعينيها الفارغتين، حيث أتوارى.. ثم ما لبثتْ أن حوّلتْ نظراتها إلى مكان آخر..
رباه !.. لم أعد أستطيع التحمل أكثر من هذا !..
هل حلّت النهاية إذا ؟.. ألن أرى ابني ثانية ؟.. ثم سالت دمعة ساخنة على خذي و أنا أستعد للزفير !..
* * *
لكن قبل أن أقدم على ذلك الفعل الانتحاري.. حدث شيء غريب !..
إذ ركضتْ نحو الجسر و هي تصرخ و تبكي.. كالطفلة التي حُرمت من شيء ما !..
اعتلت حاشية الجسر.. و انتصبت طويلا.. ثم أصدرت صيحة مدوية، جهورية.. لا فارق بينها و بين عواء الذئب !..
و سمعتُ إثرها رفرفة كثيفة على الأشجار المحيطة بالمكان.. ثم..
هوى الجسد الصغير بهدوء.. و سُمع صوت ارتطامه بالنهر..
فأطلقتُ بعد ذلك أعمق نفس في حياتي.. حتى كاد قلبي أن يُقتلع من صدري !..
نفس حمل معه رعبا و تعحبا و خلاصا..
ثم أظلمت الدنيا..
* * *