إغتصـــاب
كنت أنا وزميلي الأستاذ محمود صقر في
مأمورية عمل بالوزارة بالقاهرة .. لم ننتهي منها إلا في الثامنة مساء .. بعد أن
انتهت الدورة التدريبية على استخدام جهاز تم استيراده حديثا من اليابان .. وصل
فعلا إلى مقر عملنا في ميناء السويس .. ولكننا نجهل كيفية تشغيله .. فاستضافت
الوزارة بعض الخبراء اليابانيين ، وعقدت دورة لمدة يوم واحد قام فيها الخبراء بشرح
الجهاز وتدريبنا على استخدامه .. ونظرا لأن الجهاز تم توزيعه على كل مواني الدولة
.. فقد كان الحاضرون عددا لابأس به ..
لم يكن لي ــ وكذلك زميلي محمود ــ
أقارب في مدينة القاهرة ليستضيفونا لقضاء الليل حتى نتمكن من العودة إلى السويس في
ضوء النهار .. كنت أكره السفر ليلا ..
وكذلك زميلي .. فمعظم حوادث السيارات تحدث على الطرق ليلا .. كما أن تهور السائقين
يزداد ليلا .. وخاصة سائقي الميكروباصات بسرعتهم الجنونية .. ومناوراتهم الغير محسوبة
لتخطي السيارات الأخرى .. حتى وإن كانت الظروف لا تسمح .. لا يأبهون للأنوار
الساطعة من كشافاتهم أو كشافات السيارات المقابلة لهم على الطريق .. ولا يأبهون
لحالة الذعر والهلع التي تصيب الركاب خاصة النساء .. أذكر أني كنت أسافر ليلا ..
فانزلقت عجلة الميكروباص الذي كنت أركبه في الرمال خارج الطريق الأسفلت .. انقلبت
السيارة بنا عدة مرات .. ولولا أن المنطقة كانت صحراء رملية ناعمة لما خرج من
الميكروباس أحد حيا .. وكانت كل الإصابات ــ لستر الرحمن ولطفه ــ طفيفة .. قررت من
يومها ألا أسافر ليلا أبدا .. ولكن اليوم أنا مجبر .. وشجعني وجود زميلي محمود ..
توجهنا إلى محطة سيارات الأجرة المتجهة
إلى السويس .. في منطقة الكيلو أربعه ونص .. لم يكن هناك سوى ميكروباصين فقط ..
فالوقت قد تأخر .. وبالتالي حركة السفر تقل وتتضاءل .. وهذا ما كنا نخشاه .. كان
الميكروباص الأول به راكبين فقط .. توجهنا إليه .. كانت تسير في أعقابنا سيدة في
العقد الثالث .. أنيقة .. جميلة الشكل والمظهر .. زينتها على أكمل وجه .. لم أتوقف
كثيرا أمام هذا المنظر فقد كنت في عجلة من أمري .. هممت أنا وزميلي بالركوب ، ولكن
سائق الميكروباص صدنا بصوت أجش وهو يقول ..
ــ نحتاج لراكب واحد .. ناس حاجزة باقي
الميكروباص ..
تراجعنا على الفور .. أردف محدثا
السيدة خلفنا ..
ــ
اتفضلي انتي يا ست اركبي ..
أصابنا الحزن فالميكروباص الآخر لا زال
فارغا .. ولا ندري إن كان سيكتمل أم لا .. ولكن لحسن الحظ اقترب عدد من الناس فامتلأ
الميكروباص واكتمل بنا .. كان الميكروباص الأول قد انطلق منذ دقائق ..
سعدنا لحسن الطالع .. واطمأننا أننا
سنبيت ليلتنا في منازلنا بالسويس .. تحرك الميكروباص بنا وكل منا يتمتم بما يحفظه
من أدعية السفر والأوراد وآيات من القرآن الكريم ، في همهمه ارتفع بعضها إلي حد
الصياح وانخفض بعضها إلى حد الهمس .
طريق السويس موحش ليلا .. يخترق منطقة
صحراوية ممتدة على جانبيه .. تتخللها بعض المرتفعات والروابي التي كانت تكشفها
أنوار السيارات القليلة المتحركة عليه .. ثم لم تلبث أن ظهرت على جانب الطريق من
جهة الجنوب سلسلة جبال ممتدة ، أكثر ارتفاعا .. حاولت أن أغفو قليلا حتى أختصر
الزمن ، وأقصِّر المسافة .. ولكني لم أستطع .. فحادثة انقلابي بالميكروباص السابقة
سطعت في خيالي كالبرق .. بتفاصيلها المؤلمة .. وذكراها الموجعة .. كنت أعتقد أنني
قد نسيتها .. وبرئت من آثارها النفسية الأليمة .. ولكني شعرت بالرهبة والرعشة
تتملكني .. وترجف أوصالي .. حاولت التماسك .. ورحت أتطلع حولي لأستكشف من فطن إلي
حالتي .. كان محمود نائما ، يغط في سبات عميق .. وباقي الركاب منهم من كان نائما ،
ومنهم من كان بسبيله أن تسقط رأسه على صدره .. الحق يقال .. كان السائق يقظا متزنا
لا يقود بتهور .. كان في العقد الرابع من العمر .. اطمأننت له .. ولكن قليلا ..
فصورة الحادث لازالت تداعبني وتقلقني .. سألت السائق أين نحن الآن .. أجابني ..
جبل الجلالة .. تعجبت فالأنوار الصادرة من بعض السيارات لا تكشف أو تشي بوجود جبال
.. ويبدو أن السائق قد فطن لتعجبي فأردف .. الجبل على مسافة كبيرة في الصحراء ..
بعد فترة انقطع انبعاث أضواء لسيارات على الطريق .. وأصبح الكون أكثر وحشة ..
والليل أكثر إظلاما .. والمكان أكثر هدوءا .. كانت السحب كثيفة أخفت لألأة النجوم
.. فأصبحت السماء قاتمة سوداء .. والجو ينبئ بقرب هطول المطر .. تمنيت في قرارة
نفسي أن نصل إلى السويس قبل أن تمطر .. وأصبحت حواسي كلها مع الجو ، وحالة الجو ،
آذاني مع صوت الرياح .. نظراتي متقلبة بين الطريق والسماء ، أعصابي مع كل حركة
وسكنة للسائق .. فاختفت صورة الحادث السابق من خيالي وحل محلها حالة الترقب التي
انتابتني .. ولكن بغتة .. شق الأجواء صوت نسائي يستجير وكأنه جاء من مكان سحيق ..
أصخت السمع .. وشحزت حواسي .. كان الصوت يأتي هلوعا ثم يصمت أو يختفي .. ثم يعاود
اقتحام الجو .. كان من اتجاه منطقة الجبل التي سبق وأشار إليها السائق .. لا أدري
لماذا تذكرت السيدة التي ركبت الميكروباص الآخر في القاهرة .. بعد أن دعاها صوت
السائق الأجش للركوب بدلا منا .. أيقظت محمود .. استيقظ باقي الركاب تباعا .. أو
انتبهوا على الصوت النسائى المتلاحق من جوف الظلام .. قلت للسائق ملتاعا ..
ــ
حالة اختطاف .. قف ياسطى ..
أجابني متبرما ..
ــ
يا سيدي مالنا .. نهتم بشئوننا أحسن ..
أردفت صارخا ..
ــ
يعني لو كانت أختك أو مراتك .. أكنت ترضى أن يتركها الناس .. وكلٌ لشأنه !
الغريب في الأمر أن بعض الركاب حذا حذو
السائق ، ومال لجانبه .. منهم من قال ..
ــ
سيبنا يا عم في حالنا .. نبعد عن المشاكل ..
وآخر يقول ..
ــ
يمكن نزاع بين زوجين ..
وثالث ..
ــ
يا جماعة نرجع لبيوتنا الليلة .. أفضل من المشاكل
صرخت ..
ــ
يا ناس .. حرام عليكم .. هذه السيدة كانت معنا في القاهرة ، وسمح لها
السائق الشرس بالركوب بعد ان رفضنا ..
سمعت صوتا رزينا قويا من خلفي يخاطب
السائق ..
ــ
ادخل يا اسطى علي منطقة الصريخ ..
التفت السائق إليه متحفزا للرد ، ولكنه
تراجع فقد كان الرجل خلفي مشهرا مسدسه يصوبه ناحية السائق وهو يقول ..
ــ
أنا النقيب منجد من البوليس ..
سكنت العاصفة داخل الميكروباص .. وحسم
الجدل .. ولم يعد مسموعا إلا صوت الموتور وهو يزمجر بعد أن انحرف ليسير في طريق
ترابي داخل الصحراء بعد أن غادر الأسفلت .. ولكن الصوت النسائى كان يطغي علي صوت
الموتور كلما اقتربنا أكثر .. شاهدنا الميكروباص الآخر وقد سطعت أنواره منطلقا صوب
الأسفلت .. وصراخ السيدة لا ينقطع .. حث النقيب منجد السائق ليتبعهم ويسرع للحاق
بهم .. طار السائق بالميكرباص .. وزال عنه حذره الذي لازمه طوال الطريق .. حتى
أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من السيارة الأخرى .. تبينتها على ضوء الكشافات .. كانت
هي نفس الميكروباص الذي رفض ركوبنا .. كانت سرعة الميكروباصين رهيبة ، كما كانت
المطاردة شرسة ، كنا ننهب الطريق نهبا .. دعوت الله ألا تفاجئنا سيارات في المقابل
فيزداد الموقف سوءا ، ويعم الارتباك والفوضي .. مما قد يسبب حادثا مروعا .. لا
يعلم أبعاده إلا الله .. عادت صورة حادث انقلابي السابقة تتراقص في خيالي ..
ارتجفت .. اقشعر بدني .. اصتكت أسناني .. ارتعدت أوصالي .. كنا قد اقتربنا منهم
كثيرا .. ازدادت المطاردة شراسة .. أخرج النقيب منجد مسدسه من شباك السيارة .. صوب
.. أطلق عدة أعيره في اتجاههم .. ترنحت سيارتهم على الطريق من أثر صوت الطلقات ..
ربما أرعبت سائقها .. إندفعت داخل الرمال .. إنقلبت عدة مرات ، ثم استقرت على
ظهرها ، والموتور يصرخ والعجل يدور ، والجسم ساكن كسلحفاة انقلبت على ظهرها عاجزة
مستسلمة لقدرها .. توقفنا بجوارهم .. قفز النقيب منجد من سيارتنا .. وانقض عليهم
وألقي القبض علي السائق ورفيقيه ، عاوناه في تقييدهم بالحبال .. كانت السيدة في
حالة يرثى لها ، ولكنها كمن ولدت من جديد .. لم تصدق أنها نجت من براثن الذئاب
البشرية الشرسة .. تعاوننا على استعدال السيارة المقلوبة تحت إشراف النقيب منجد ..
وضعنا الذئاب البشرية الثلاث في الميكروباص .. إختبره النقيب منجد ، واطمأن
لصلاحيته للسير .. طلب متطوعين منا لمرافقته للقيام بحراسة المقبوض عليهم .. كنت
أنا ومحمود زميلي من المتطوعين .. استقر النقيب على عجلة القيادة ، واستدار
بالميكروباص في اتجاه الأسفلت ، وقبل أن ينطلق بنا قال للسائق الذي رافقنا طوال
الرحلة ..
ــ
هكذا لو تعرضت أختك أو زوجتك لمثل هذا الحادث .. سوف تجد حتما من يهب
لنجدتها
وانطلقنا في طريقنا إلى مدينة السويس
ـــــــــــــــــــــ