الحـــــافظ
طريق الاسكندرية الصحراوي موحش أثناء
الليل .. تقل عليه حركة السيارات .. وتختفي فيه معالم الأشياء والمنشآت المتناثرة
في عباءة الظلمة حالكة السواد .. الأستاذ حمزة يقود سيارته الفيات ومعه زوجته
وابنيه الصغيرين .. كان دائما يتجنب مسألة السفر ليلا تحسبا للمواقف الطارئة التي
لا تكون في الحسبان .. خاصة عندما يصطحب زوجته وأولاده .. لم تكن سيارته الفيات
القديمة نسبيا أهلا للثقة .. وكثيرا ما وضعته في مواقف حرجة .. وجرعته مقالب ساخنة
.. ولكنه كان يتصرف .. لأنه غالبا ما يكون وحده .. وخاصة وانه كان دائما يلتزم
بالسفر في وضح النهار ، والشمس تنشر ضياءها على الدنيا .. فسرعان ما كان يجد حلا .. أو ملاذا ..
ومخرجا يخرجه من ورطته .. وفي أغلب الأحيان كان يلجأ لإحدى سيارات النصف نقل
فتسحبه إلى أقرب ورشة إصلاح .. وينفح السائق أجرا .. فيقبله إما بالرضا مجبور
الخاطر .. أو على مضض .. وفقا لقناعة هذا السائق .. منذ عدة أسابيع والأولاد يلحون
عليه ليقضوا عدة أيام في المصيف في مدينة الأسكندرية .. فقد انتصف شهر يولية ،
واشتد قيظ الحر .. كما أن معظم أصدقائهم قد رحلوا إلى الثغر الجميل .. يتمتعون
بنسيمه .. وينهلون من منظر بحره الرائع ومصطافيه الذين يملأون شواطئه من مختلف
الطوائف والأنماط والأشكال .. لم يستطع الأستاذ حمزة أن يحصل على أجازته السنوية
هذا العام .. فالشركة تعاني من خسائر فادحة .. وهو كرئيس لقسم الحسابات كان مطالبا
بإعداد تقرير عن أسباب هذه الخسائر والحلول المقترحة للإصلاح .. ألح على مدير
الشركة .. فوافق له بأجازة لمدة أربعة أيام ، بعد مداولات ومحاولات مضنية من جانب
حمزة .. أسرع إلى التليفون .. تمكن من حجز الشقة المتواضعة التي تعود أن يقضي فيها
فترة المصيف كل سنة .. كان من حسن طالعه أن مستأجريها قد أخلوها لتوهم بسبب ظروف
طارئة داهمتهم .. أسرع إلى منزله ليزف البشرى لزوجته وأولاده .. أسعدهم الخبر ..
ودب الانشراح نفوسهم المكتئبة .. ودبت الحياة والحركة في البيت .. ورضوا بهذه
الأيام القلائل .. أفضل من لا شيء .. بعد أن ملك اليأس نفوسهم وفقدوا الأمل في
المصيف هذا العام .. كان اليوم قد تجاوز منتصفه .. استعجلهم حمزة في إعداد أنفسهم
والحقائب .. وراح هو يعد سيارته الفيات .. زار الميكانيكي ليطمئن على حالتها ..
وضبط أجزائها الميكانيكية والكهربائية .. ثم عرج على محطة البنزين وزودها بالوقود
.. وقام بضبط ضغط الهواء في الإطارات .
بدأ ركب الأسرة في التحرك من مدينة
القاهرة .. كانت الشمس قد اختفت تماما وفرد الليل عباءته القاتمة علي الطريق
الصحراوي يتخللها بعض الأنوار المتواترة على استحياء .. لم يتوقف حمزة عن ترتيل
بعض آيات القرآن الكريم المنجيات ، وبعض الأدعية والأوراد .. خاصة أدعية السفر ..
كان يقود السيارة وشفتاه لا تكفان عن التمتمة والهمهمة .. كان يخشي من الفصول والمقالب
البايخة التي تعشقها سيارته .. فماذا يفعل لو عملتها وتوقفت في الطريق .. ولا ملجأ
أو ملاذ يلجأ إليه ، أو ورشة تسعفه أو حتى بشر يستضيفون أسرته .. لا فنادق أو
منتديات .. والمسافة إلى الرست هاوس لا زالت كبيرة .. دعا ربه أن يجنبه مغبة هذا
الموقف الصعب ، متمنيا ألا تتوقف سيارته إلا في مدينة الأسكندرية .. وإن كان لابد
فعلى الأقل تتوقف في منطقة الرست هاوس ..
كانت زوجته تقص عليه حكاياتها التي لا
تنقطع عن أخبار الجيران ، ونوادر الأهل .. وأخبار الموظفين في العمل .. كانت سعيدة
.. لم تكن تشعر بالهواجس التي انتابت زوجها .. ولم تلحظ توتره ومخاوفه .. أما
الأطفال فكانوا مشغولين باللعب والمزاح .. فرحين سعداء بقرب لقائهم بأصحابهم
وزملائهم في الأسكندرية .. فجأة اهتزت السيارة تحت قدم حمزة .. وقع قلبه في رجليه
.. راحت السيارة تقفز قفزات متلاحقة إلى أن توقفت تماما .. رفضت النطق أو الحركة
.. بارحت الأسرة السيارة وراحوا يدفعونها إلى مكان آمن على جانب الطريق .. لقد حدث
ما كان يخشاه حمزة .. صدق حدسه ، وتيقنت هواجسه .. ماذا يفعل ومعه اسرته في هذا
الظلام الدامس والمكان الموحش ؟ كان يسمع من زملائه عن حوادث الطرق وقطاع الطرق ..
والأهوال التي يتسببون فيها .. تمنى أن تمر سيارة نصف نقل فتجره بأسرته إلى
الأسكندرية أو إلى مكان أكثر أمنا .. ولن يبخل عن السائق بأي مبالغ يطلبها .. مهما
كانت .. ولكن هيهات .. طال بهم الانتظار على الطريق دون أن تظهر أي بوادر لحل أو
وسيلة .. مرقت بجوارهم سيارة مسرعة .. ثم توقفت على بعد يقرب من الميل .. لترجع
بظهرها وأصبحت بجوارهم .. سيارة ملاكي وسائقها رجل مهذب تبدو على وجهه آيات
الاعتداد بالنفس والتواضع في نفس الوقت .. لم يتمكن الاثنان من إصلاح السيارة
الفيات ، فعرض الرجل على الأستاذ حمزة أن يقله هو وأسرته في طريقه إلى مدينة
الإسكندية .. وهناك يمكن أن يجد أكثر من حل .. انتقلت الأسرة إلى السيارة الأخرى
.. وقام حمزة بإغلاق كل أبواب سيارته الفيات ثم رفع كفيه إلى السماء وتلا الآية (
بسم الله الرحمن الرحيم .. فالله خيرٌ حافِظـًا وهو أرحم الراحمين .. صدق الله
العظيم ) .. فوض أمره إلى الله ، وترك عربته لقدرها وحيدة على الطريق وسط أدغال
الظلام في عالم المجهول .. انضم إلى أسرته .. حيث مرقت بهم السيارة الأخري وصاحبها
المهذب لتنهب الطريق إلى مدينة الأسكندرية كان حمزة طوال الطريق يفكر في حكايات
زملائه عن السيارات التي تعطل على الطرق ويتركها أصحابها ليلا ، وحين يعودون إليها
تكون قد سلبت معظم أجزائها .. بدءا من العجل وحتى الأجزاء الميكانيكية والكهربيه ،
وبعض الأجزاء المكملة للموتور .. وفي بعض الأحيان تختفي السيارة تماما .. فلا يجد
صاحبها أي أثر لها .. بعد أن يكون اللصوص قد نجحوا في جرها وسحبها إلى مكان آخر ..
ولكن حمزة كان يتمتم طوال الطريق ( فالله خيرٌ حافظا ...... ) وسلم الأمر لله ..
سرعان ما وصل إلى مدينة الأسكندرية .. ترك أسرته في الشقة المحجوزة ، وانصرف هو
يبحث عن ميكانيكي إلى أن عثر على ورشة إصلاح متخصصة في نجدة العربات العاطلة .. لم
يكن الميكانيكي الذي رافقه متفائلا حين علم أن السيارة وحدها على الطريق ليلا طوال
هذه المدة .. وكاد أن يعود أدراجه لولا إلحاح حمزة الشديد الذي وصل إلى حد التوسل
والرجاء .. كانت سيارة النجدة ذات الونش بطيئة نسبيا .. فقطعوا المسافة في زمن
أطول .. وصلا إلى المكان .. زغرد قلب حمزة فرحا .. فقد رأى سيارته تقف في مكانها
سليمة كاملة لم ينقص منها شيئ من الظاهر .. كانت فرحته عارمة .. اقتربا من السيارة
بعد أن ترجلوا من سيارة الونش .. بدأوا يجوبون حولها متفحصين .. اعترضهما صوت من
جوف الظلام الدامس .. لم يلبث أن ظهر شبحه ممسكا ببندقية في يده .. في وضع استعداد
لإطلاق النار وهو يهز سكون الليل بصوته الرخيم ..
ــ
مكانكم .. ماذا تريدون ؟ ..
وحين تأكد من أن حمزة هو مالك السيارة
.. أرخى سلاحه ، وبش وجهه .. ولانت قسماته .. وراح يلومه في عتاب لتركه السيارة
وحدها في هذا المكان ليلا .. وأخبره أنه رأى السيارة وحدها أثناء بحثه عن جمل شارد
في الصحراء .. فقرر أن يحرسها لحين عودة أصحابها عل الله يؤجره على جميل صنعه ..
اغرورقت عينا الأستاذ حمزة وهو يتمتم في صوت خفيض مرتعش ناظرا إلى السماء وهو يردد
( فالله خيرٌ حافظـًا وهو أرحمُ الراحمين ) .
ـــــــــــــــــــــ